عنوان الفتوى : من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي حول سوق الأوراق المالية والبضائع
تاريخ الفتوى : من رجب إلى شوال لسنة 1418هـ الموافق يوليو - أكتوبر 1997
السؤال : غير متوفر
الرد:
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، سيدنا ونبينا محمد ، وآله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا ، وبعد :
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) ، وما يعقد فيها من عقود بيعا وشراء على العملات الورقية وأسهم الشركات ، وسندات القروض التجارية والحكومية، والبضائع، وما كان من هذه العقود على معجل ، وما كان منها على مؤجل .
كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين والمتعاملين فيها، وعلى الجوانب السلبية الضارة فيها . (أ) فأما الجوانب الإيجابية المفيدة فهي :
أولا : أنها تقيم سوقا دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشترين ، وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة على الأسهم والسندات والبضائع .
ثانيا : أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية والتجارية والحكومية عن طريق طرح الأسهم وسندات القروض للبيع .
ثالثا : أنها تسهل بيع الأسهم وسندات القروض للغير ، والانتفاع بقيمتها ، لأن الشركات المصدرة لها لا تصفي قيمتها لأصحابها .
رابعا : أنها تسهل معرفة ميزان أسعار الأسهم وسندات القروض والبضائع ، وتموجاتها في ميدان التعامل عن طريق حركة العرض والطلب .
(ب) وأما الجوانب السلبية الضارة في هذه السوق فهي :
أولا : أن العقود الآجلة التي تجرى في هذه السوق ليست في معظمها بيعا حقيقيا ، ولا شراء حقيقيا ، لأنها لا يجرى فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العرضين أو في أحدهما شرعا .
ثانيا : أن البائع فيها غالبا يبيع ما لا يملك من عملات وأسهم أو سندات قروض أو بضائع على أمل شرائه من السوق وتسليمه في الموعد ، دون أن يقبض الثمن عند العقد ، كما هو الشرط في السلم .
ثالثا : أن المشتري فيها غالبا يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه ، والآخر يبيعه أيضا لآخر قبل قبضه . وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشيء ذاته قبل قبضه ، إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الأول الذي يكون قد باع ما لا يملك ، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ ، وهو يوم التصفية ، بينما يقتصر دور المشترين والبائعين غير الأول والأخير على قبض فرق السعر في حالة الربح ، أو دفعه في حالة الخسارة ، في الموعد المذكور ، كما يجري بين المقامرين تماما .
رابعا : ما يقوم به المتمولون من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل ، والتسليم في حينه ، وإيقاعهم في الحرج .
خامسا : أن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة ؛ لأن الأسعار فيها لا تعتمد كليا على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع أو إلى الشراء ، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة ، بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق ، أو من المحتكرين للسلع أو الأوراق المالية فيها ، كإشاعة كاذبة أو نحوها . وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعا ؛ لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية في الأسعار ، مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيرا سيئا . وعلى سبيل المثال لا الحصر : يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم أو سندات قروض ، فيهبط سعرها لكثرة العرض ، فيسارع صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل ، خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك وزيادة خسارتهم ، فيهبط سعرها مجددا بزيادة عرضهم ، فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق بسعر أقل بغية رفع سعرها بكثرة الطلب ، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار ، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة ، وهم صغار حملة الأوراق المالية ، نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة . ويجري مثل ذلك أيضا في سوق البضائع .
ولذلك قد أثارت سوق البورصة جدلا كبيرا بين الاقتصاديين ، والسبب في ذلك أنها سببت في فترات معينة من تاريخ العالم الاقتصادي ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير ، بينما سببت غنى للآخرين دون جهد ، حتى إنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم طالب الكثيرون بإلغائها ، إذ تذهب بسببها ثروات ، وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية ، وبوقت سريع ، كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية .
ولذلك كله ، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ، بعد اطلاعه على حقيقة سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) ، وما يجرى فيها من عقود عاجلة وآجلة على الأسهم وسندات القروض والبضائع والعملات الورقية ، ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقرر ما يلي :
أولا : أن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلاقى فيها العرض والطلب والمتعاملون بيعا وشراء ، وهذا أمر جيد ومفيد ، ويمنع استغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء ، ولا يعرفون حقيقة الأسعار ، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع ومن هو محتاج إلى الشراء .
ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة) أنواع من الصفقات المحظورة شرعا ، والمقامرة والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل ، ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها ، بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجرى فيها ، كل واحدة منها على حدة .
ثانيا : أن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجرى فيها القبض فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعا هي عقود جائزة ، ما لم تكن عقودا على محرم شرعا . أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم ، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه .
ثالثا : أن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات حين تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعا ، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعا كشركات البنوك الربوية وشركات الخمور ، فحينئذ يحرم التعاقد في أسهمها بيعا وشراء .
رابعا : أن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة ، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعا ؛ لأنها معاملات تجرى بالربا المحرم .
خامسا : أن العقود الآجلة بأنواعها ، التي تجرى على المكشوف ، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع ، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعا ؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك ، اعتمادا على أنه سيشتريه فيما بعد ويسلمه في الموعد . وهذا منهي عنه شرعا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402). لا تبع ما ليس عندك ، وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه : صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559). أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم .
سادسا : ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية ، وذلك للفرق بينهما من وجهين :
(أ) في السوق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد ، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية ، بينما أن الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد .
(ب) في السوق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها وهي في ذمة البائع الأول ، وقبل أن يحوزها المشتري الأول ، عدة بيوعات ، وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين ، مخاطرة منهم على الكسب والربح ، كالمقامرة سواء بسواء ، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه .
وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي أنه يجب على المسئولين في البلاد الإسلامية أن لا يتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة تتعامل كيف تشاء في عقود وصفقات ، سواء أكانت جائزة أو محرمة ، وأن لا يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاءون ، بل يوجبون فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها ، ويمنعون العقود غير الجائزة شرعا ؛ ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية ، ويخرب الاقتصاد العام ، ويلحق النكبات بالكثيرين ؛ لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شيء . قال الله تعالى : سورة الأنعام الآية 153 وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
والله سبحانه هو ولي التوفيق ، والهادي إلى سواء السبيل ، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
توقيع:
د . عبد الله عمر نصيف - نائب الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رئيس مجلس المجمع الفقهي
الأعضاء الموقعين:
عبد الله العبد الرحمن البسام - صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - محمد بن عبد الله بن سبيل - مصطفى أحمد الزرقاء - محمد محمود الصواف - صالح بن عثيمين - محمد رشيد قباني - محمد الشاذلي النيفر - أبو بكر جومي - عبد القدوس الهاشمي - محمد رشيدي - محمد أحمد قمر .
مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
مصدر الفتوى : الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء